كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ما تذر} أي: تترك على حالة رديئة، وأغرق في النفي فقال تعالى: {من شيء أتت عليه} أي: إتيانًا أراد مرسلها إهلاكه بها {إلا جعلته كالرميم} أي: الشيء البالي الذي دهكته الأيام والليالي إلى حالة الدمار وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض وديس، قاله ابن جرير.
فإن قيل: الجبال والصخور وغير ذلك أتت عليهم وما جعلتهم كالرميم أجيب بأنّ المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم، لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم فما تركت شيئًا من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.
ثانيها: قوله تعالى: {وفي ثمود} أي إهلاكهم وهم قوم صالح عليه السلام آية عظيمة {إذ} أي حين {قيل لهم} أي ممن لا يخلف الميعاد، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها {تمتعوا} أي بلبن الناقة وغيره مما مكناهم فيه من الزروع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور على الوجه الذي أمرناكم به، ولا تطغوا {حتى حين} أي وقت ضربناه لآجالكم.
{فعتوا} أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتوّ وهو التكبر والإباء {عن أمر ربهم} أي: مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا ناقته وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام {فأخذتهم} أي: بسبب عتوّهم أخذ قهر وعذاب {الصاعقة} أي: الصيحة العظيمة التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقرأ الكسائي بإسكان العين ولا ألف قبلها، والباقون بكسر العين وقبلها ألف وقوله تعالى: {وهم ينظرون} دال على أنها كانت في غمام وكان فيها نار، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضًا من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} (هود:) وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي: وهذا ضعيف، لأنّ قوله تعالى: {فعتوا عن أمر ربهم} بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى: {تمتعوا} فإذًا الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به.
{فما} أي: فتسبب عن ذلك أنهم ما {استطاعوا} أي: تمكنوا، وأكد النفي بقوله تعالى: {من قيام} أي: فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض، قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (الأعراف:) وقيل: هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه {وما كانوا} أي: كونًا ما {منتصرين} أي: لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار.
ثالثها: قوله تعالى: {وقوم نوح} بالجرّ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على {ثمود} أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح {من قبل} أي: من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى: {إنهم كانوا} خلقًا وطبعًا لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم {قوما} أي: أقوياء {فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن حظيرة الدين.
ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى: {والسماء بنيناها} أي: بمالنا من العظمة {بأيدٍ} أي: بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها. فائدة: رسمت بأيد بيائين بعد الألف {وإنا} على عظمتنا بعد ذلك {لموسعون} أي: أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلًا فلسنا كمن تعرفون من الملوك، لأنهم إذا فعلوا شيئًا لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
{والأرض فرشناها} أي: بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وسقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها {فنعم} أي: فتسبب عن ذلك أن يقال: في وصفنا نعم {الماهدون} والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي: نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئًا علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة، وما فيها من شر فهو آية على النار وقوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا} يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا من كل شيء {زوجين} وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من زوجين، لأنه في الأصل صفة له إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء، أي صنفين كل منهما يزاوج الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ولا يتم نفع أحدهما إلا بالآخر من الحيوان والنبات وغيرهما، ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر والحسن والقبح والحياة والموت والظلام والنور والليل والنهار والصحة والسقم والبر والبحر والسهل والجبل والشمس والقمر والحر والبرد اللذين هما من نفس جهنم آية بينة عليها وبناؤها على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوّقة إليها، والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر قال الحسن: كل اثنين منها زوج والله سبحانه وتعالى فرد لا مثل له {لعلكم تذكرون} أي: فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعلموا أنّ خالق هذه الأشياء واحد لا شريك له لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح، وقرأ حفص والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
{ففرّوا} أي: أقبلوا والجؤوا {إلى الله} أي: الذي لا سمي له فضلًا عن مكافىء، وله الكمال كله فهو في غاية العلو فلا يفرّ ويسكن أحد إلى غير محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ولا يفرّ إليه سبحانه إلا من تجرّد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دلّ عليهما بالزوجين فتكمل السياق بالتحذير والاستعطاف بالاستدعاء فهو من باب لا ملجأ منك إلى إليك أعوذ بك منك قال القشيري: ومن صح فراره إلى الله تعالى صح قراره مع الله تعالى قال البقاعي: وهو بكمال المتابعة ليس عينًا ومن فهم منه اتحادًا بذات أو صفة فقد نابذ طريق القوم فعليه لعنة الله.
{إني لكم منه} أي: لا من غيره {نذير} أي: من أن يفرّ أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصد {مبين} أي: بين الإنذار ففرار العامّة من الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا، ومن الكسل إلى التشمير حذرًا وحزمًا ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق استغراقًا في وحدانيته.
{ولا تجعلوا} أي: بأهوائكم {مع الله} وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعيينًا للمراد، لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهًا على ماله من صفات الكمال وتعميمًا لوجوه المقاصد لئلا يظنّ لو قيل معه إنّ المراد النهي على الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها {إلهًا آخر} ثم علل النهي مع التأكيد بطعنهم في نذارته فقال: {إني لكم منه} أي لا من غيره، فإن غيره لا يقدر على شيء {نذير} أي: محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لاخلاص معها إن فعلتم ذلك {مبين} أي: لا أقول شيئًا من واضح النقل إلا ودليله ظاهر.
{كذلك} أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة البعيد من الصواب بما له من الاضطراب وقع لمن قبلهم ودلّ على هذا المقدّر بقوله تعالى مستأنفًا {ما أتى الذين من قبلهم} أي: كفار مكة وعمم النفي فقال تعالى: {من رسول} أي من عند الله تعالى {إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي مثل تكذيبهم لك بقولهم ذلك لأنّ الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء أكانت أو للتفصيل، لأنّ بعضهم قال: واحدًا، وبعضهم قال: آخر، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيبًا فطنًا آتيًا بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضدّ من ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: {إلا قالوا} يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب: بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى إلا {إلا قالوا}.
فإن قيل: فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين، وقال: إلا قال بعضهم: صدقت وبعضهم كذبت أجيب: بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقوامًا قبلك كذبوا ورسلًا كذبوا.
ثم عجب منهم بقوله تعالى: {أتواصوا به} فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى: كيف اتفقوا على معنى واحد، كأنهم تواطؤا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى: {بل هم قوم} أي: ذو شماخة وكبر {طاغون} إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه، ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فتولّ} أي: أعرض {عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام {فما أنت بملوم} لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم فأنزل الله تعالى:
{وذكر} أي: ولا تدع التذكير والموعظة {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فطابت أنفسهم، والمعنى: ليس التولي مطلقًا بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين، وقال مقاتل: معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم.
ولما بين حال من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي، وأوضح منه ما قاله ابن عادل: إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا، كقولك: هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو إنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا منقول عن عليّ بن أبي طالب، أو إنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعًا والكافر يفعل ذلك كرهًا، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختيارًا في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحد اضطرارًا في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء. وقال مجاهد: معناه إلا ليعرفون قال البغوي: وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف:) وقيل: المراد به الخصوص أي: ما خلقت السعداء من الجنّ والأنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قال زيد بن أسلم: قال هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجنّ والإنس} (الأعراف:) وقيل: وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين وقيل: الطائعين.
تنبيه:
استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وأجيبوا بوجوه منها: أنّ اللام قد ثبتت لغير الغرض كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء:) وقوله تعالى: {فطلقوهنّ لعدّتهنّ} (الطلاق:) ومعناه المقارنة فيكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ومنها قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد:) ومنها ما يدلّ على أنّ الإضلال بفعل الله كقوله تعالى: {يضل من يشاء} (الرعد:) وأمثاله، ومنها قوله تعالى: {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء:) وقوله تعالى: {يفعل ما يشاء} (آل عمران:) {ويحكم ما يريد} (المائدة:).
فإن قيل: ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلفين قال تعالى: {بل عباد مكرمون} (الأنبياء:) وقال تعالى: {لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف:) أجيب بوجوه:
أحدها: أنّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجنّ والأنس، لأنّ الكفر موجود فيهما دون الملائكة. ثانيها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجنّ والإنس فلما قال تعالى: {وذكر} بين ما يذكر به، وهو كون الخلق للعبادة وخصص أمّته بالذكر أي ذكر الجنّ والأنس ثالثها: أن عباد الأصنام كانوا يقولون إنّ الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله تعالى وخلقهم لعبادته، ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله تعالى فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله تعالى كما قالوا {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى} (الزمر:) فقال تعالى: {وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلمًا من القوم فذكر المنازع فيه. رابعها: فعل الجنّ يتناول الملائكة لأنّ أصل الجنّ من الاستتار وهم مستترون عن الخلق فذكر الجنّ لدخول الملائكة فيهم.
ولما خص سبحانه خلقهم في إرادة العبادة صرّح بهذا المفهوم بقوله تعالى: {ما أريد منهم} أي: في وقت من الأوقات وعمم في النفي بقوله تعالى: {من رزقٍ} أي: شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر كما يفعل غيري من الموالي مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفيء ربحًا، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضًا، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب أو محتش أو مستق أو طابخ أو خابز وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرّف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ.
{وما أريد} أصلًا {أن يطعمون} أي: أن يرزقون رزقًا خاصًا هو الإطعام وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها وقيل: في الآية حذف مضاف أي وما أريد أن يطعموا أحدًا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأنّ الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال الله فقد أطعمه كما صح في الحديث عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما تعلم أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن دم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي».